الصيام تجلٍّ عظيمٌ من تجليات العبودية لله تعالى، ومدرسةٌ يتعلم فيها المؤمن الإخلاص، والتقوى، والصبر. إنه رياضةٌ للروح، وتهذيبٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، يرقى به العبد إلى مقامات العبودية السامية، حيث قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
إنه فرصة عظيمة يتجدد فيها الإيمان، وتصفو فيها الأرواح، ويتحرر العبد من أسر شهواته ليكون أقرب إلى مولاه؛ فما الحكمة من الصيام؟ وكيف يجسد هذا الركن العظيم من أركان الإسلام معاني العبودية والخضوع لله؟ وما فوائد الصيام؟ ومتى فُرض الصيام؟
الصيام في اللغة مشتق من الفعل “صام، يصوم”، ويعني الإمساك عن الشيء، أي الامتناع عن القيام به، وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (مريم: 26)، أي الإمساك عن الكلام.
أما في الاصطلاح الشرعي فالصيام هو الامتناع عن المفطرات، من الطعام والشراب والجماع، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية التقرب إلى الله تعالى، وهو عبادة عظيمة فرضها الله على عباده في شهر رمضان، وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
كمافرض الله زكاة الفطر في نهاية هذا الشهر العظيم لننهي به هذا الشهر بواحدة من أفضل وأرقى العبادات.
وفي الحديث الشريف، قال النبي ﷺ: “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمَن استطاع إليه سبيلًا” (متفق عليه).
قال الإمام ابن كثير: “لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان”، فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو ترويض للنفس، وتهذيب للأخلاق، وتقويةٌ للإرادة، وتقرب إلى الله عز وجل بالتقوى والطاعة.
الصيام في الإسلام يتنوع وفقًا لحكم الصيام وسببه، ومن أنواع الصيام:
أولًا: الصيام الواجب
وهو الصيام الذي فرضه الله على عباده، ولا يجوز تركه إلا لعذر شرعي، ويشمل:
1- صيام رمضان: وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، ويجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر، لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185).
2- صيام القضاء: وهو الصيام الذي يكون لتعويض الأيام التي أفطرها المسلم بعذر مشروع في رمضان، لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة: 184).
3- صيام النذر: وهو الصيام الذي يوجبه المسلم على نفسه بسبب نذرٍ التزامي، كأن يقول: “لله عليّ أن أصوم يومًا إن تحقق كذا”، ويجب الوفاء به، لقول النبي ﷺ: “مَن نذر أن يطيع الله فليطعه” (رواه البخاري).
ثانيًا: الصيام المستحب (التطوعي)
وهو الصيام الذي يؤديه المسلم طواعية لنيل الثواب والفضل، مثل:
1- صيام ستة أيام من شوال: قال النبي ﷺ: “مَن صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر” (رواه مسلم).
2- صيام يوم عرفة (لغير الحاج): قال ﷺ: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده” (رواه مسلم).
3- صيام يوم عاشوراء: قال ﷺ: “وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” (رواه مسلم).
4- صيام الاثنين والخميس: وهو من السنن النبوية، حيث قال النبي ﷺ: “تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم” (رواه الترمذي).
5- صيام الأيام البيض (13، 14، 15 من كل شهر قمري): قال ﷺ: “صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله” (متفق عليه).
ثالثًا: الصيام المحرم
وهو الصيام الذي لا يجوز فعله شرعًا، مثل:
1- صيام يوم العيدين (الفطر والأضحى)، فقد نهى النبي ﷺ عن صيام يوم الفطر والأضحى.
2- صيام أيام التشريق (11، 12، 13 من ذي الحجة)، إلا لمَن لم يجد الهدي في الحج.
الحكمة من صيام رمضان هي تعويد المسلم على الصبر، وكبح الشهوات، والتحكم في النفس، فيتخلص من العادات السلبية، ويقوي الإرادة والعزيمة.
كما أن الصيام يُذكِّر العبد بنعمة الطعام والماء، فيتعلم الشكر والامتنان لله، ويشعر بمعاناة الفقراء والمحتاجين، مما يدفعه إلى الرحمة والإحسان إليهم.
والصيام عبادة عظيمة تحمل في طياتها حكمًا إلهية سامية، فهو ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تربيةٌ روحيةٌ وتهذيبٌ نفسي يهدف إلى تحقيق التقوى والخضوع لله تعالى.
كذلك للصيام أثر صحي عظيم، فهو يريح الجهاز الهضمي، وينشط عملية تجديد الخلايا، ويخلص الجسم من السموم، مما يجعله شفاءً للروح والجسد معًا، إن في الصيام سرًّا ربانيًّا وحكمةً بالغةً، فلا عجب أن يكون ركنًا من أركان الإسلام.
ما الحكمة من فريضة الصوم؟
فرض الله الصوم لحِكَم عظيمة تسمو بالنفس وترتقي بالقلب، وقد بيَّن النبي ﷺ الغاية السامية من الصيام بقوله: “مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري).
وتتجلى الحكمة من مشروعية الصيام في:
وبهذا، فإن حكمة الصوم في شهر رمضان هو الهدية التي تنير القلوب، وتزكي النفوس، وتمنح الجسم راحةً وتجديدًا.
فرض الله الصيام على عباده لحِكَمٍ عظيمة، فهو تربية للنفس، وتهذيب للأخلاق، وطريقٌ للوصول إلى التقوى، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
فلم يكن الصيام مجرد حرمانٍ من الطعام والشراب والشهوات، بل هو تدريبٌ إيمانيٌّ عظيم يرقى بالنفس ويجعلها أكثر طاعةً لله، وصبرًا على الطاعات، وبُعدًا عن المعاصي.
الصيام يجعل العبد أكثر قدرةً على مقاومة الشهوات والتحكم في رغباته، مما ينعكس على حياته كلها.
الصيام شكرٌ لله على نعمه، عندما يمسك الصائم عن الطعام والشراب، يدرك قيمة النعم التي أنعم الله بها عليه، فيزداد شكرًا لله وامتنانًا لعطاياه.
الصيام فُرض ليكون زكاةً للروح، وتطهيرًا للقلب، وتقويةً للإرادة، وتربيةً على الإحسان، فهو عبادة عظيمة تجمع بين التقوى، والصبر، والشكر، والإحساس بالآخرين، وهو سبيلٌ للفوز برضا الله وبلوغ جنته.
متى فُرض صيام شهر رمضان؟
فُرض الصيام على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة، في شهر شعبان، وذلك بعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، حيث نزل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
وكان أول رمضان صامه المسلمون في السنة الثانية للهجرة، وهو الشهر الذي وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، مما يدل على أن الصيام لم يكن سببًا في ضعفهم، بل زادهم قوةً وإيمانًا.
الصيام عبادة عظيمة تحمل في طياتها فوائد شاملة للجسم والعقل والروح، فقد قال النبي ﷺ: “صوموا تصحّوا” (رواه الطبراني)، مما يدل على أن الصيام رحمة إلهية تجمع بين الصحة الروحية والجسدية، وهو وسيلة لزيادة التقوى، والانضباط، والإحساس بالفقراء، والتقرب إلى الله.
في هذا الشهر الفضيل، ندرك الحكمة من الصيام في تهذيب أرواحنا، وتقوية إرادتنا، وتذكيرنا بنعم الله علينا، فنسعى إلى استثماره بالعبادة، والذكر، والإنفاق، والتقرب إلى الله، لنحصد بركته في الدنيا، ونرجو ثوابه في الآخر.